زهــرة في الخيــال ...الحلقة الثـانيــة

أنــا فــزعــانة

مشيت باتجاه المطبخ و تجاهلت نداءات لبنى الخافتة التي سرعان ما تلاشت. لا أدري هل يئست من عودتي إليها.أم أن شعوري بالدوار قد أثر علي سمعي .. كنت اشعر بالجدران الصلبة وقد تقوست تحت راحتي ولم أستطيع أكمال طريقي .حين أنشق الفراغ وظهرت ليلى أكبر بنات العائلة وأقربهن إلي نفسي .
كان وجه ليلي كأغنية مرحة وعلي غير العادة لم تستطيع نقل عدوى هذه السعادة المبهمة إلي. أنا من نقلت إليها هذا الهلع المحتل  خلاياي فضمتني إليها وهي تتمتم ببضع كلمات لم أفهم لها معني.فلم أمنحها إجابة لما بدا وكأنه سؤال ما .
أخذتني ليلى إلي مكتب جدها.الذي.كان من الأماكن المحرمة علينا حين كنا صغار. وأصبح للبعض منا امتياز الدخول إليه إذا كان محبا للقراءة. لكننا – ليلى وأنا- كنا نهرب إليه لنحكي أسرارنا الصغيرة أو لتحكي ليلى وأسمع أنا .
كانت عيناها تلمعان توشك أن تخبرني بنبأ سعيد. وعيناي تلمعان أيضا لنبأ سمعته منذ قليل أسكن الدمع بهما والحزن بقلبي . كنا في غرفة أسرارنا ولكنني أسرت الصمت.
- نور هل أنتِ مريضة؟؟...أخبريني هل هناك شيئا ما يحزنك؟؟!!

كنت علي وشك البكاء لكنني تمالكت دموعي
- هل تعلمين يا ليلى أن هذا البيت سيهدم ؟؟سيهدمون بيتنا.
قفزت ليلى في الهواء وصفقت كطفلة صغيرة ...- أنتي تعرفين أذن ..من أخبرك ..كانت تدور بي في غرفة المكتبة تعانقني تارة وتمسك بيدي و تلوح بها  في الهواء تارة أخري فاجأتني سعادتها لسماع خبر أحزنني كثيرا .
- ليلى ...هل يسعدك هدم المنزل ؟؟!!
- بالطبع يا نور ...سيهدمونه ثم يعيدون بنائه ليصبح برج سكني عالي...
- ولكنني أحبه هكذا ..وأحب ما هو عليه ..
- لا تكوني سخيفة ألم تشتكي من هذه الأبراج السكنية التي تسد الأفق وتمنعك من مسامرة النجوم..سأطلب من جدي أن يكون أعلي بناية في الشارع...وسنتمكن جميعا من مشاهدة النجوم .
- لكنني لا أحب الغرباء ..لا أريد أن يمتلئ بيتنا بالغرباء ..صمت ليلى جعلني أدرك أنه ليس بيتي بلل بيتهم -بيت الحاج محمد وعائلته -
- نور ..لن يسكن غرباء بالمنزل سيكون بيتنا نحن..أجلسي سأخبرك بالقصة من بدايتها


جلست ليلى تقص علي كيف قرر جدها أن يجمع العائلة كلها في بناية واحدة حتى الطابق الإداري سيجعل منه مقر لشركته ومكاتب لأحفاده..كانت ليلى تبدو متحمسة للفكرة .وعندما طال صمتي ظنت أنها تطمئنني حين ألمحت أننا جزء من العائلة بالطبع. فوالدتي هي ابنة لأبن عم الحاج محمد .وفي الريف تعتبر هذه الصلة أكثر من كافية لتصبح فرد أصيل من أفراد العائلة لكن لم يكن هذا ما يشغل بالي ...

- ها ...ما رأيك في هذه الأخبار ..هل زال حزنك ...؟؟
رسمت شبح ابتسامة علي شفتي ..وتظاهرت بالسعادة. ويبدو أن ابتسامتي الشبح لم تكن كافية لطمأنة ليلى .فحاولت أن تدخل السرور علي بخبر أخرز
- نسيت أن أخبرك بالأهم
- هل هناك ما هو أهم ؟؟
- يوم الخميس خطبتي أنا ومحمود.

كنت أعلم أن ليلى ومحمود ابن عمها علي وشك أتمام خطبتهما.فمحمود هو بطل جل الأسرار التي شاهدتها هذه الغرفة . كانت قصة الغرام الوحيدة التي اقتربت منها حقيقة بعيد عن الروايات التي قراءتها والحكايات القليلة التي كتبتها يوما . والتي كنت أحتمي  بها من الوقوع في الحب . فأهرب للأوراق مكتوبة أم بيضاء . ربما لاحت الفرصة أحيانا حينما صرت طالبة جامعية ألتقي بالعديد من الزملاء لكن سياجا من المخاوف زرعته أمي حولي ودعمه انطوائي وأد كل قصص الغرام في بدايتها .
- مبروك يا ليلــى…ألف مبــروك
- وسوف نأتي لنعيش هنا بعد الزفاف ..ليس هنا بالطبع في البناية الجديدة
- ولماذا لا يبقي المنزل علي حاله وتتزوجون في الشقة الخالية بالطابق الأول.
- لقد فكرنا في هذا لكن أنتِ تعرفين جدي جيدا ..يخشي أن يظلم أحد أحفاده لذلك قرر أن يستجيب لاقتراح محمود بهدم المنزل.
- اقتراح محمــود ..!!
كان لمحمود منزلة خاصة لدي حتى هذه اللحظة التي ثبت عليه الجرم فيها ..محمود هو السبب أذن كدت أصرخ في ليلى وأطالبها بأن يبحثوا عن شقة أخري بعيد عن المنزل لكنني أدركت مرة آخري أنه لا حق لي في ذلك .
بينما استكملت هي حديثها متجاهلة عن عمد علامات غضبي ..
- سيقوم ببناء البرج نفس المهندس الذي صمم البرج السكني المقابل لنا وسيكون ذو طراز معماري أنيق ..أبنه صديق لمحمود وكان وسيط بين جدي ووالده

كنت أشعر أنني أمام عصابة تستعد لعملية اغتيال مع سبق الإصرار والترصد..وهممت بالخروج من الغرفة غير آبه بغضب ليلى التي استمرت في حديثها غير مهتمة بردودي  المقتضبة والغير متحمسة .واستوقفتني وأنا في طريقي للخروج.
- إلي أين يا نور؟؟

- سأذهب للمساعدة في المطبخ
- ومنذ متى تساعدين في المطبخ ؟؟!! أنتِ أقرب صديقاتي يا نور كنت أظن أنك ستسعدين لسعادتي.
ألقت بجملتها الأخيرة ثم أشاحت بوجهه متظاهرة بانتقاء كتاب من علي أحد الرفوف .أدركت حينها مدي أنانيتي  .هذه ليلى الأقرب إلي قلبي وربما صديقتي الوحيدة .أول من يقرأ كلماتي وأكثر من يشجعني .كثيرا ما رسمنا الغد سويا وحلمنا بكل الأفراح التي سنتشارك فيها معا .البيت سوف يعاد بنائه فلم الحزن أذن هذا وقت الاحتفال بليلى .
- أيتها الحمقاء هل تعتقدين أن العمل في المطبخ أهم منك كنت أمازحك بالطبع ..أخبريني هل تجرأت علي اختيار ثوب الخطبة وحدك؟؟


 كم كانت ليلى سهلة الإرضاء وطيبة القلب. هل تتذكر ذلك اليوم حين سألتني عن سر تعلقي بليلى ؟؟ لم أدري لأي سبب أحبها حقا ربما لأنها طفلة مهما كبرت حنونة مهما غضبت لا تتكبر مثل هبة وهناء بنات عمها وأخوت محمود . كانت هي أيضا لا تميل إليهما. أحيانا أشعر أنهما يغارا علي أخيهما من ليلى أو أي فتاة أخري. حتى لو كانت صغيرتنا لبنى .في ذلك اليوم قضينا الظهيرة في المكتب حتى استدعتنا الجدة للغداء . الذي كان بمثابة اجتماع مفتوح لمناقشة هدم البيت و إعادة بنائه .أخبرنا الحاج محمد بتصوره لعدد الأدوار والشقق وكيف سيتم تقسيمها بين الجميع و ولديه الحاضرين- علي و حسين - وابنته مريم المسافرة مع زوجها وأحفاده .
.يومها شاهدته لأول مرة ينهر أمي.  عندما اقترحت أن تدفع مقابل للشقة التي سيمنحنها لنا من نصيبها في ميراث والدها. الذي حصلت عليه أخيرا بمساعدة الحاج محمد نفسه. بل وأنهي الحاج المناقشة وصرف نساء العائلة لأنه في انتظار المقاول الذي سيبنى العمارة الجديدة .

لم أدري هل أواسي أمي التي كانت تبكي وتدافع عن نفسها أمام السيدة عائشة بأنها لم تعني أي كلمة قالتها. أم أدافع عن اقتراحها الذي صادف هوى في نفسي . فاكتفيت بدور المشاهد ككل النساء الحاضرات. ليلى وحدها شعرت بما أعاني وحاولت أن تخرجني من المشهد . للشرفة .
.نعم للشرفة .كنت نسيت تماما رغبتي في الذهاب إليها ورؤيتك للمرة الأولى عن قرب ،،وبالرغم من أنه موعدك المعتاد لم أجدك هناك ..شعرت بخيبة أمل لكنني لم أترك ليلى وحدها علي أمل أن تظهر أنت قريبا .

 لكنك ظهرت بعد برهة ..لم تكن في الشرفة مثلما توقعت . كنت تعبر الردهة إلي غرفة الصالون بمنزل الحاج محمد .جئت معه لتتفقوا علي هدم منزلنا ..كم كرهتك هذا اليوم ورميتك بالخيانة.
أنت يا صديقي لم تكن تسامر النجوم مثلي بل كنت تتربص بمنزلي لتهدمه أنت المتهم الحقيقي،، ولست بحاجة إلي أن تدافع عن نفسك. أنت هنا  لتقر بجريمتك وتعترف بها .و الاعتراف سيد الأدلة كما تعلم.

يتبع ،،،،

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مــواسم المطــر ...(5) ..قوس المطر

عداء الطائرة الورقية