زهــرة في الخيــال ...الحلقة الأولــي

نحنــا والقمـــر جيــران


حين تصلك هذه الأوراق وتشرع في قراءتها أريدك أن تعلم شيئا واحد- قبل أن تأخذك سطورها إلي إجابات لأسئلة

ظلت مبهمة طوال علاقتنا -.أنا لا أكتب إليك لأصل خيطا كاد أن يتمزق كما تمزقت كل الخيوط فيما بيننا . لكنني أقطع خيط قد يجمعنا يوما ما .خيط خفي عنك ..
أري في عينيك هذا البريق الذي أعتاد أن يسكنها تعبيرا عن اندهاشك ..فهل وفرت شعورك بالدهشة حتى أنهي سطوري ..وأستمع لي مرة أخيرة لننهي ما بيننا بلا عودة .
أنا أعرف كم أحببت ما كتبت من قصص وكثيرا ما سألتني متى وكيف بدأت الكتابة؟؟! الآن سأجيبك .فهذه قصة أخيرة ذات نسخة وحيدة أهديها إليك كأخر ما يجمعنا سويا . لتكون صفحتها الأخيرة هي أخر سطر في حكايتنا.
سأعود معك حيث البداية. قبل أن تأتي وأسرتك لتسكنوا هذا الشارع الهادئ. الذي أتت إليه أسرتي قبلكم .بل قبل أن أولد. أنا الابنة الوحيدة لزوجين كنت قرة عينهما التي تعامل معاملة الملكات ..فقد رزق بي أبي بعد سنوات عجاف وزواج أول فاشل صممت زوجته أن تنهيه بالطلاق لأن أبي لا ينجب كما أدعت ..وأثر أبي أن يبقي وحيدا ما تبقي له من سنوات العمر .حتى أقنعه رب عمله أن يتزوج من قريبة له –أمي- فتاة ريفية طيبة ويتيمة. ومنحه شقة في العمارة التي يسكنها ويمتلكها ..لم تكن شقة بالمعني الفعلي كانت حجرات متباعدة علي سطح العمارة أستطاع أبي بمساعدة رب عمله أن يجعل منها شقة رحبة تحتل معظم سطح العمارة ..
في هذه الشقة ولدت أنا ..وفي تلك المساحة المتبقية من سطح العمارة لهوت وقضيت أجمل أيام طفولتي ..كان عالمي منحصرا بين الدراسة والبيت ..فأبي الذي يخال أنني  أغلي جواهر الأرض و أمي التي مازالت تخشي المدينة الواسعة وصخبها. لم يسمحا لي يوم أن أبتعد عن مجال بصرهما إلا للضرورة القصوى.كانت نزهتي الوحيد حين أهبط بضع طوابق في زيارة لرب عمل أبي حين يأتي أحفاده لزيارته ..تلك النزهة التي صارت نادرة حين كبرنا بالعمر وصرنا لا نهتم باللهو ولا ألعاب الصغار. لم تستمر صداقتي غير بإحداهن ليلى ابنة الدكتور   حسين وأختها الصغيرة لبنى .   .
 لم أختبر الصداقة  بعيد عن ليلى ..لكن النجوم كانوا صحبتي أسهر معهم وأحكي لهم ..لم أهتم لما يجري خارج حدود مملكتي فهو لا يضيرني ولا يضرني..مهما تولت الأيام وأدبرت وأقبلت ما تغير عالمي ولا تأثر .حتى عندما بدأ شارعنا يتبدل  فتتعالي فيه العمارات العالية. وتندثر المنازل الصغيرة والفيلات المتناثرة بحدائقها البسيطة
. وما في عالمي يمكن أن يتغير والنجوم دانية والقمر صديق الشارع لا يعنيني طالما السماء لم تجافيني وما يحجبها عني أحد....
حتى كان اليوم الذي لمحت فيه لافتة عريضة .معلقة علي الفيلا المقابلة لمنزلنا التي يغمرها عطر الياسمين ويطيب لي المرور من أمامها..كنت سعيدة بتقديري العام في نهاية السنة الجامعية الثالثة لكن ما كتب علي اللافتة أصابني بانقباض وسلب سعادتي...قرار هدم رقم ....ولم أكمل العبارات المتتالية كنت أعلم معني اللافتة فلم تكن إلا نعي لحديقة الياسمين وإعلان عن مارد جديد يسد الأفق أمام شرفتي وربما تعالي حتى أبعد عني النجوم.
كنت أراقب نمو المارد الأسمنتي وأتمنى أن تصيبه دعوة أمي بوقف نموه فهي مثلي تحب الأفق المتسع الذي يذكرها بقريتها . أم الآن فغابات الأسمنت تحاصرنا من جميع الجهات. جافيت شرفتي كثيرا لكن بين الحين والأخر كنت أزورها .فيشتد غضبي حين أري البرج السكني الذي أحتل الأفق- وبرغم أتساع شرفاته- فهي دائما خالية. وكأنه مسكون بالأشباح. وإلا لماذا يترك أهله تلك الشرفات الواسعة دون أن يخرجوا إليها ؟؟!! .وهم ينعموا بما حرمنا منه فانخفاض منزلنا يجعل السماء متسعة أمامهم .
كنت أتفحص الشرفات بلا وجل ولا حرص حتى لمحتك ذات يوم شبح في الظلام تنظر إلي النجوم مثلما كنت أفعل يوما.غمرني شعور بالحقد ..نعم كان هذا شعور الأولي حين رأيتك أول مرة ..كنت كطفلة صغيرة حرمت من صحبتها المفضلة وتري غيرها يتمتع بما حرمت منه..فلم يعد لي صديق ولا رفيق الآن ..حتى  خطر لي خاطر غريب ..ماذا لو جعلتك أنت صديقي..؟؟ نعم أنت ..؟ سأحكي لك وأسامرك فربما كنت هدية  القدر .

صرت أنتظرك كل مساء لتشاركني حكاياتي وأغضب أن تأخرت ولأنني يروقني جدا طريقتك في محاولة أرضائي صرت أغضب لأسباب عديدة. هل كنت مجنونة تعتقد؟؟ ..أم  كنت وحيدة .

كثيرا ما كتبت إليك الرسائل دون سبب .فقط لأنني لا أريد أن أحتفظ بورقة بيضاء. وكأنك موجود من أجل كل مساحات الفراغ التي أحاطت بي كان  اندفاع لا تبرير له غير أنه في حدود المسموح فعلاقتي الخيالية بك لن تكدر أبي وأمي وفي نفس الوقت ستمنحني الفرصة لأن أحلق مع كائن حي في سماء لا يحدها أسوار ولا تحجبها مباني عالية.
سرعان ما تحولت الصداقة الخيالية لاهتمام أنثوي فحبيسة الجدران لم تريد أن تحتفظ بمشاعر الطفولة أكثر من هذا .أرادت التحرر ولو كان تحرر وهمي .
ولم يعد مجدي أن أكتفي بهذه المراقبة من بعيد. وبعد أن كنت أشعر بامتنان لهذه المسافة الطولية التي تمكنني من مراقبتك دون أن تلاحظ. صرت أتمني لو كنا متقابلين لأقترب منك أكثر وربما لمحتني ذات يوما وحييتك بابتسامة خجولة.
ولماذا أتمني؟؟!! كل ما علي أن أهبط طابقين وأزور السيدة عائشة فهي تعتبرني بمثابة حفيدتها أو أنتظر حتى يأتي أحفادها لزيارتها فيستدعيني زوجها الحاج محمد- رب عمل أبي – لأجلس معهم وسوف أتعلل بأي سبب لأخرج للشرفة في موعد عودتك للمنزل.
نظرة واحد لورق نتيجة الحائط أخبرتني أن كل شيئا يصير وفق رغبتي .بعد عدة أيام نحتفل بليلة الإسراء والمعراج  ونجتمع جميعا في شقة الحاج محمد علي مائدة الغداء عندها لن أتكلف عناء التفكير في عذر واهي أو قوي لزيارتهم .
جرت العادة أن تأتي النساء مبكرات في مثل هذه التجمعات ليشاركن في تهيئة المنزل مع السيدة عائشة وبالطبع تنضم أمي لهن فهي تعتبر من نساء العائلة اللواتي وبرغم مكانتهن الاجتماعية ومستواهن الثقافي والمادي يجدن المتعة الأكبر في مشاركة عميدة العائلة في أعداد ما لذ من الطعام عكس فتيات العائلة اللاتي يقتربن من سني فهن يبتعدن عن المطبخ تماما ويتجمعن في أحدي الغرف يتحدثن أحاديث الفتيات .أم رجال العائلة كبارهم وصغارهم فيأتوا حين يقترب موعد الغداء.
تركت أمي تذهب وحدها فلم يكن لدي رغبة في مشاركة الفتيات أحاديثهن ونزلت بعد صلاة الظهر . فرأيت الشقة علي غير ما توقعت فالرجال مجتمعون في الصالة الواسعة .كان المشهد يدل علي أنه اجتماع لأمر هام . توجهت ببصري إلي لبني حفيدة الحاج محمد الصغيرة التي كان تسترق السمع في الردهة التي تؤدي إلي المطبخ .فإشارات إلي أن أقترب منها .. وحين أصبحنا متجاورتين ..همست في أذني بكلمات لم أستطيع سماعها..فأشرت إليها أن  ترفع صوتها قليل....
- البيت ...
- أي بيت ...؟؟
-              فأشارت إلي الأرض التي نقف عليه
-              ما به
-              سيهدمونه
-               يتبع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مــواسم المطــر ...(5) ..قوس المطر

عداء الطائرة الورقية