زهــرة في الخيــال ...الحلقة الثــالثة

أنـــا عندي حنيــن

 تسللت هاربة إلي شقتنا . تعللت لأمي بالإرهاق وتفاديت فتيات العائلة ونسائها خصوصا ليلى . كنت أريد أن أبقي وحيدة أنا وأنت في جلسة محاكمتك العاجلة. كنت القاضي والجلاد والشهود وأنت المتهم ،،و الاتهام ليس واحد بل تهم عديدة.
 كانت جلسة سريعة لكن تنفيذ الحكم كان من العسير. كنت أقاضي رجل خيالي وأطالب بتنفيذ الحكم علي رجل أخر . رجل لم يكن يسامر النجوم كل ليلة مثلي . لم يشاركني أحاديث السمر . رجل كان يدرس مشروعه المستقبلي. 
وهل كانت  هذه تهمة؟؟!! . كان يجب أن أحاكم نفسي بتهمة البلاهة.

أنا لا أملك لك شيء فأنت لست صنع خيال . عجزت أن أعاملك كبطل من أبطال حكاياتي. فلو كنت أحد أبطالي وفقط .لكن بإمكاني أن أكتب عنك وأسكنك أوراقي  ثم أمنحك تأشيرة للسفر خارج حدود حكاياتي لكنني لم أستطيع أن أتخلص منك ولو بالسكتة الكتابية.

كنت أحاول أن أجد مخرجا لمعضلة صنعتها أنا . حينما عادت أمي بأسرع مما توقعت يتبعها أبي . خجلت من نفسي وقد أثرت فزعهما علي . لكن سرعان ما تبين لي أن بينهما ما يشبه الشجار،، كان نتيجة اقتراح أمي علي الحاج محمد   دفع ثمن الشقة التي سنحصل عليها في العمارة الجديدة .
 ظننت أن أبي سيسعد بموقفها. وكدت أن أتخلي عن صمتي في مثل هذه المواقف التي يكون الحياد فيها مبدأ ومنهج.   لاسيما و دفاع أمي لم يجدي نفعا حين تعللت بأنها تريد أن تخفف عن الرجل الذي أكرمنا جميعا ..وتساهم في فك أزمته علي حد تعبيرها . بينما رأي والدي أنها تسببت في إحراجه بل وحملته ما يزيد حينما أصر علي منحي شقة مثل كل أحفاده. كنت علي وشك الانسحاب من الغرفة حين صدمتني جملة ختامية في حديث أبي
- أليس الرجل أولي بثمن هذه الشقة لو كان باعها لشخص أخر؟؟
كان تساؤل أبي يبدو لي كجملة خبرية تعني أن العمارة الجديدة سيأتي إليها سكان غرباء . هل كذبت ليلى علي ..أم لم تكن تعلم .
 حقيقة الأمر أن والدتي حتى لم تكن علي دراية بالأمر . فالحاج محمد كان يخفي الأمر عن أبنائه كم أخبرنا أبي . وبرر أمر هدم المنزل برغبته في تجميع أبنائه وأحفاده حوله . في حين أنه يمر بأزمة مالية لا تمكنه من أعادة بناء المنزل فأشرك معه جارانا المقاول ليتولي نفقة البناء  .علي أن يقتسما شقق البرج السكني الجديد مناصفة .
لو كنت شخص أخر لتوقفت عن أنانيتي و أقلعت عن خيالي هذا اليوم لكني لم أفعل أبدا.كما تعلم أنت.


في هذه الأيام المزدحمة كان الأجدر بي نسيانك ..تجاهلك. وأنا ألمم أشيائي وأغادر منزلي .هنا كل ما كان لي  وما وددت أن يبقي معي . كنت أقضي النهار بصحبة ليلى التي تحمست لاقتراحي بإقامة الخطبة في منزل جدها . ليكون أخر عهدنا به حادث سعيد،، وأن تركتني ليلى لبعض الوقت ساعدت أمي في تجميع متاعنا. كان للحاج محمد منزلا قريبا من أحد  المصايف تستخدمه العائلة في عطلاتها. وسيصبح مقرنا المؤقت حتى ينتهي بناء البرج السكني .كانت زيارتنا النادرة للمصيف في الماضي مبهجة . لكن اليوم لا أتمني الذهاب إليه أبدا . لكننا سنغادر بعد عدة أيام ولن أكون مضطرة لرؤيتك ولو مصادفة بعد أن جافيت شرفتي المطلة علي عمارتكم منذ ذلك اليوم الذي أتهمتك فيه بالخيانة .
 لقاء واحد كان مقدرا لنا ليلة خطبة ليلى ومحمود . حين تزين المنزل زينته الأخيرة . كان بهي وكأنه يريد أن نحفظ عنه أجمل الصور كم كان لنا به أجمل الذكريات .
في ليلة كتلك الليلة التي تجبرنا فيها البهجة أن نشرع أبواب القلب . يبدو الحب ظرفا مناسبا جدا . لاسيما ونحن نحتفل بدنو قطاف أحدي ثماره التي راقبنا نموها وراعينها كأصحابها منذ كانت بذرة صغيرة. لم أتوقع أن أراك في جمع عائليا كهذا .تعبر الباب   بألفة غريبة  .كانت المرة الأولي التي نكون قريبين فيها بهذا القدر . وأنت تدنو من محمود مهنأ له بينما أقف أنا بجوار ليلى . في ليلة تدعو للحب كان مقدرا لي أن أهدر فرصة ربما وفرت ما عانيته لسنوات وما زلت أعانيه . اللعنة علي كل الفرص المهدرة التي كلما تذكرنها تعمدت إيلامنا ندما .

تبرع محمود بتعريفك بي وكأنه يمنحني بطاقة للسفر إلي القمر . لكن تمسكي بهذا العداء الخيالي جعلني أفضل البقاء علي الأرض . 
- باش مهندس يحيي ..نور   ...ولم أدع له فرصة لكلمة أخري.
 لا أدري بما فكرت أنت حينما علت وجهي تلك الابتسامة الصفراء التي لا تعني ترجمتها إلا شيئا واحد . كم أنت شخص غير مرغوب في وجوده . لا زلت أتذكر نظرتك حينها مزيج من التعجب والنفور .
يومها سكنني الندم وقد جعلني هذا التصرف وحيدة طوال السهرة .  في حين اختلطت أنت بالجمع وصرت أنا الغريبة . كان انتصار أخر لك وجريمة جديدة تضاف إلي جرائمك السابقة.


بعد خطبة ليلى بيومين ذهبنا لنقيم في المنزل الصيفي . كانت الولائم شبه يومية يتناوب علي حضورها أبناء الحاج محمد وأحفاده . بينما كانت ليلى شبه مقيمة معنا .  انتبهت أنني أستمع لحديثها عن محمود بطريقة مختلفة . أصبحت قصص الغرام تصيبني بالحنين للمجهول وتدفعني للكتابة . التي أصبحت فعل عسير في ظل هذا الصخب الدائم الذي لم أعتاده فأنا أستأنس بالوحدة ويضجرني الزحام .
 في تلك الأيام تعودت أن أقلع عن استخدام الورقة والقلم ،صرت أكتب باستخدام  حاسوب شخصي أشترته لي أمي حين لاحظت أنني أُكثر من استخدام حاسوب ليلى . وأعطلها عن حديثها مع بنات عمتها مريم المقيمة في الخليج . كان اصطحاب الحاسوب والجلوس أمام البحر أكثر أمنا من استخدام الأوراق المتطايرة . هل تدري عن ماذا كنت أكتب ؟؟!!
نعم كنت أكتب عنك . ليس من السهل اقتلاع كائن حبري من ذاكرتك والتخلي عنه . ربما من السهل أن تتخلي عن الأشخاص الحقيقيين . لكن فعل الكتابة يرافقه التملك وربما يسبقه فنحن نكتب عن أشخاص حينما نقرر امتلاكهم ولو في الخيال . كنت أنزع عنك كل شرورك وأبرئك من جرائمك ثم أعيدك لتكون صديقي مرة أخري . أمام البحر حكيت لك  وأخبرته عنك أيضا . وحين أنتهي أغلق عليك حاسوبي بعد أن تحولت من كائن حبري إلي مخلوق الكتروني . لكنني دوما كنت أحن للرجل الحقيقي .
لست أدري هل كان هذا موسم الحب ؟؟. أم كنت أنت رجل قدري؟؟ . أم أنني كنت أسعي لقصة غرام عن عمد وإصرار. تمنيت أن يدعوك محمود يوم لسهرة من سهرتنا العائلية لكنه لم يفعل أو ربما كنت مشغول بمشروعك الجديد . البرج السكني الذي ستقيمه علي أنقاض منزلنا .
كان تذكر المنزل يصيبني بغصة وخصوصا مع اقتراب شهر رمضان  بطقوسه الروحانية التي ارتبطت عندي بالوجود في منزلنا وسماع أصوات المساجد القريبة.

حاولت ليلى كثيرا أن تدعوني لمشاهدة البرج السكني الجديد لكنني كنت أرفض وبشدة . وكأنني  لن أعود إليه في يوم من الأيام . حتى كان ذلك اليوم. كان المنزل يستعد لاستقبال مريم ابنة الحاج محمد وأبنائها في أجازتهم السنوية التي فضلوا أن تصادف عيد الفطر . وطلبت ليلى من أخيها الأكبر أياد أن نمر علي محمود في طريقنا لشراء مستلزمات العيد . لم أكن أعلم أن محمود قد نقل مكتبه منذ بضعة أيام في البرج السكني الجديد  .

كثيرا ما أعتدت أن  لا تأتيني المشاعر فردا . فكثيرا ما اختلطت السعادة بالخوف . والافتقاد بالترقب . والحزن بالتردد . لكنني لست أدري أي المشاعر تناوبت علي يومها .وكأنني في شارع لا يمت لي بصلة كل ما فيه أختلف . كنت كنبت اقتلعوه من جذوره وخافوا أن يعود لنفس التربة فقصوا الجذر وأبقوا علي الساق معلقا في الهواء . كان الافتقاد شبيها بالموت حينها . حاولت أن أوقف دموعي لكنني لم استطيع لم أكن أبكي المنزل كنت أبكي ذكرياتي وذاكرتي . أعطاني أياد منديلا وطلب مني الهدوء حاول أن يخبرني انه يتفهم مشاعري لكنني لم أكن علي استعداد لسماعه . كان أياد طبيب كوالده مدربا علي المواقف الحرجة والتخفيف عن المرضي . وكنت مريضة بالحنين.

وحتى تكتمل الدائرة وتضيق جاء محمود بك لتحينا . ولم يكن من السهل تجاهل وجودك تراك ستتفاخر بما أنجزت . كدت أصرخ بك بعد أن حطمت عالمي .  وعلي غير المتوقع بدل من أن تفتخر ببنائك الجديد. أخذت ترثي منزلنا القديم وطرازه المعماري الذي  لا يمكن تكراره . صرت تتحدث عن حلمك ببناء منزل مشابه لمنزلنا القديم حتى أنك احتفظت بصور له قبل الهدم . كدت أطلب منك أن تمنحني نسخة من تلك الصور لكن البرودة التي تحتل المساحة بيننا لم تشجعني علي مثل هذا الطلب .

يومها شعرت أن صورة الخيال ربما طابقت الواقع . لكن الخيال ملك لي بينما الواقع الاقتراب منه شبه مستحيل .
في الأيام التالية صار شغلي الشاغل هو بناء جسر تواصل معك ..هل أجبت سؤالك المتكرر منذ متى أحببتني ؟؟
لكنه ليس السؤال الأهم أو ليست الإجابة التي أردت أن أخبرك بها .دعني أخبرك كيف تعرفت عليك ..لا لن أقص عليك الصدفة التي جمعتنا بعدها بستة أشهر . الأمر لم يستغرق كل هذا الوقت . وربما لن أكمل الكتابة إليك بعد أن أخبرك بهذا السر الكبير .


يتبع



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مــواسم المطــر ...(5) ..قوس المطر

عداء الطائرة الورقية