"الرجال الصغار"


كلما رأيت أحدهم تعجبت كيف لهم هذا التشابه العجيب؟؟ حتى إن ملاحهم تكاد تكون واحدة وإن أختلفت ، وحكاياتهم متطابقة وإن تباينت التفاصيل وكأنما هو مشهد واحد ما زال متكررا إلي ما لانهاية ، بل يكاد يتطابق مع مشاهد أخري تدور خارج حدود خيمتنا .
كان أول عهدي مع أحدهم في ليلة ختام القرآن منذ عدة سنوات كنا عزمنا إن نقيم الليل في حديقة الخالدين أمي وأختى وأعز صديقاتي وأنا ،، حين فزعنا علي صوت صرخاته فتحركت مع صديقتي نحوه كان يتلوى من الألم وقد تناثرت حوله الأكواب الخالية من الشاي الذي إنسكب عليه ،، نحيل أسمر يبلغ من العمر ما يناهز السنوات العشر و حافي القدمين ، نظرة واحدة من حارس الحديقة الذي يستغل غرفة الحراسة في وضع موقد صغير و أدوات تساعده علي صنع الشاي كانت كفيلة بأن يهب واقفا متناسيا ألمه ،،،
أنصرف الجمع وأنصرفنا بعدهم لكن عيوننا لم تنصرف عنه وظللنا نراقبه حتى أقترب منا بعد برهة ،، وكنا عزمنا الأمر علي مساعدته وليست كل المساعدة مال ،،، حاولنا التخفيف عنه قليلا و فحص مكان الحرق وسألناه عن أهله فقد كان الوقت متأخرا جدا ، كنت خمنت إن الحارس والده قبل إن يزجره بنظراته ،، لكنه أخبرنا أنه يسكن في حي بعيد جدا و إنه لم يدخل منزله من شهر أو أكثر ،، فالمنزل لا يطاق بعد هجرة أبيه له ، كانت قصة تقليدية سمعناها مرارا خلال أعمالنا التطوعية لكنها دائما تخلف المرارة ،،
أختفى الطفل في الزحام وأنشغلنا بصلاتنا و بقينا علي حراسته كأحد أقاربنا الصغار ،، هذا الصغير يختلف عن أبطال المشهد القادم كرجال أعمال صغار لن يطلقون مشاعر الشفقة في صدورنا ،، بل ستندهش فخرا برجولتهم وذكائهم الفطري
في العام التالي وكواحد من الضغوط التي تعرض لها المصليين تم أغلاق حديقة الخالدين كنوع من التضييق علي رواد الخيمة وبالتالي لم يعد حارس الحديقة هو صاحب المقهى الصغير بل عاد مجرد حارس ،،
وفي العشر الأوخر ومع طول السهر و الحاجة إلي المشروبات الساخنة ظهر إسلام بائع المناديل الصغير " أسمر نحيل ، حافي القادمين ، قوي الساق ، يمتلك ذكاء فطري ،، ربما أستأجر كولمان المياة المغلية من القهوة المجاورة للمسجد أحضر أكياس الشاي والنسكافية و أخذ يعرض خدماته علي المصليات ،، نلاحظ تنافس بين إسلام وفتى أصغر منه سرعان ما يصبح معاون له ويبدو إسلام كرب عمل حقيقي يأمر وينهي ويوزع العمل ،، في العام التألي يودعنا إسلام قائلا " السنة اللي جاية مش هدخل الخيامة قالولي أنت كبرت ودي خيمة ستات " يتركنا إسلام عائد لقريته التابعة لمحافظة البحيرة و نراه أحيانا في شارع سوتر يبيع المناديل الورقية فيصيبنا الحزن علي مصير الأسمر الصغير الذي كان ينبأ بأنه يستحق أكثر من هذا ،
هكذا لا يستمر بطل المشهد أكثر من عامين متتالين ثم يفسح المجال لبطل أخر صغير قوي الساق حافي القدمين ،
نتعرف بعدها علي زياد " صاحب الصورة " الذي يساعد أبيه عائل الأسرة الكبيرة ، زياد يعرف أماكننا وماذا نحب أن نشرب وفي أي وقت لاقيته هذا العام فقبلته وتضرج وجهه خجلا ، فقلت له : العام القادم لن نراك أعتبرها قبلة وداع من أختك الكبرى ،، وبرغم إن الرجال الصغار يقسمون الخيمة إلي مربعات لا يتعدى أحدهم علي مربع الأخر ، فهذا لا يمنع إن يأتي معاذ زاجرا زياد لأن سيدة في مربعه طلبت من زياد كوب شاي فأمتنع ونادي صديقه علشان يشوف شغله ،،،
و بسبب إنقطاع التيار الكهربائي وخوفا من السرقات تم منع الصغار من دخول الخيمة ،،، لو كان يدري من يخفف الأحمال في خيمتنا ويترك الكثير من المقاهي السياحية حولنا تعمل ما يفعله بصغارنا فربما كان هذا عامهم الأخير في الخيمة ،،
لكن معاذ المتحفز دائما والمجتهد يأتي إلي الخيمة قبل صلاة العشاء وربما أثناء الأفطار ، ذهبت إليه أحضر كوب من الشاي لعجوز تصلى بجوارنا فلما علم أنه لها رفض إن يأخذ نقود حتى ألححت عليه ،، نظر إليها بشفقة وقال لي : تعرفي الست دي طيبة قوي أنا بحب أجيبلها الشاي كل يوم ،،
فأجبته : طيبة جدا أنا أيضا أحبها لو طلبت منك شيئا أنتظرني وسأدفع لك
فنظر إلي معاتبا : أنا مش باخد منها فلوس
فطيبت خاطرها : أقصد لو طلبت أكتر من حاجة
فأصر علي رأيه : ومهما طلبت أنا مش هاخد منها أصلها طيبة قوي
تقبل أسفي يا معاذ " لقد أفشيت سرك الذي أخبرتني "
فهذه السيدة التي تركها ابنائها دون سؤال وتأتي لتناول الأفطار في خيمة النساء طلبا للأنس دون الطعام ، وجدت من يحنو عليها هكذا هي خيمتنا بيت ومصلى تجمعنا فيها مشاعر لا تعرفها كلمات ولا تحتويها ،،،
ربما لن نلتقي العام القادم ويأتي بطل أخر صغير حافي القدمين حديث السن يعاون أبيه أو يدخر ثمن ملابس العيد ،، لكنه يحمل عقل ذهبي وقلب أبيض ،، ربما تمكنا يوما من المحافظة عليهما

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مــواسم المطــر ...(5) ..قوس المطر

عداء الطائرة الورقية